منذ ليلة الخميس 6 مارس/آذار، شهدت سوريا تطورات متسارعة، حيث تعرضت قوات الأمن التابعة للجيش السوري الجديد لسلسلة من الهجمات المنسقة والكمائن المتفرقة من قبل ما يُعرف بـ "فلول نظام الأسد". واستهدفت هذه الهجمات عشرات المواقع في منطقة الساحل السوري، بما في ذلك ريف اللاذقية، ريف طرطوس، وقرى جبلة، ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى وتصاعد حدة التوتر في المنطقة.
يُعد الساحل السوري من أهم المناطق الجغرافية والاستراتيجية في البلاد، إذ يمتد على طول 180 كيلومتراً بمحاذاة البحر الأبيض المتوسط، ما يجعله شرياناً حيوياً يربط سوريا بالعالم الخارجي. ويمتلك الساحل أهمية اقتصادية وسياسية كبيرة، نظراً لاحتوائه على موانئ رئيسية مثل اللاذقية وطرطوس، اللتين لعبتا دوراً محورياً في التجارة الإقليمية والدولية. كما كان الساحل السوري قاعدة نفوذ تقليدية لنظام الأسد، ومركزاً لوجود قوى إقليمية ودولية داعمة له، مثل روسيا وإيران، ما جعله ساحة للتنافس الجيوسياسي.
على الصعيد الديموغرافي، يتميز الساحل السوري بتنوع سكاني يشمل العلويين، السنة، والمسيحيين، ما ساهم في تشكيل نسيج اجتماعي واقتصادي متداخل. ورغم أن المنطقة تجنبت الدمار الواسع الذي شهدته مناطق أخرى خلال الحرب، إلا أنها لم تكن بمنأى عن التأثيرات الاقتصادية والسياسية، إذ تأثرت بشكل عميق بسبب تدفق النازحين، التدخلات العسكرية، والعقوبات الاقتصادية.
في هذا التقرير، سنسلط الضوء على الساحل السوري من مختلف الجوانب، بدءاً من موقعه الجغرافي وأهميته الاستراتيجية، مروراً بدوره السياسي، وصولاً إلى التحولات الاقتصادية والديموغرافية التي شهدها.
الموقع الجغرافي
يمتد الساحل السوري على طول 180 كيلومتراً من محافظة طرطوس جنوباً إلى رأس البسيط شمالاً، مشكلاً الشريط الساحلي الغربي لسوريا في محافظتي اللاذقية وطرطوس. يتميز بموقع استراتيجي على البحر الأبيض المتوسط، ويضم مدناً رئيسية مثل اللاذقية وطرطوس، إضافة إلى مرافئ طبيعية في جبلة وبانياس.
يحد الساحل السوري تركيا شمالاً ولبنان جنوباً، فيما تحده شرقاً محافظتا حمص وحماة، ويتسم بسهل ضيق يمتد شمالاً وجنوباً، متصلاً بسلسلة الجبال الغربية، ومنها جبال الباير والبسيط في الشمال، وجبال الساحل التي يصل ارتفاعها إلى 1539 متراً عند قمة جبل متّى.
المناخ متوسطي، حيث الصيف معتدل وجاف مع تبخر مرتفع، بينما يكون الشتاء ماطراً إلى بارد، ويتراوح معدل الهطول السنوي بين 700 و800 ملم، ويزداد في المرتفعات ليصل إلى أكثر من 1200 ملم، فيما يبلغ متوسط درجات الحرارة السنوي نحو 18 درجة مئوية.
تبلغ مساحة الساحل السوري حوالي 4200 كيلومتر مربع، موزعة بين محافظتي اللاذقية (2300 كلم²) وطرطوس (1900 كلم²). تضم اللاذقية أربع مناطق إدارية: اللاذقية، الحفة، القرداحة، وجبلة، ويتبعها 440 قرية، بينما تنقسم طرطوس إلى خمس مناطق: طرطوس، بانياس، الشيخ بدر، دريكيش، وصافيتا، ويتبعها أكثر من 400 قرية.
التركيبة السكانية
تأتي محافظتا الساحل (اللاذقية وطرطوس) في المرتبة الثانية بعد محافظة دمشق من حيث الكثافة السكانية، ويعود ذلك لأسباب عدة، أهمها توفر فرص العمل في قطاعات متعددة تشمل الزراعة، الصيد البحري، التجارة، الخدمات، والسياحة.
وبلغ عدد سكان الساحل عام 2010 حوالي 1.8 مليون نسمة، بنسبة تقارب 9% من المجموع الكلي لسكان سوريا، بحسب أرقام المكتب المركزي السوري للإحصاء. ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، استقبل إقليم الساحل نزوحاً كثيفاً من السكان الذين هُجّروا من مناطق القتال.
وأعلنت لجنة الصليب الأحمر الدولية في عام 2014 أن أكثر من مليون شخص نزحوا إلى اللاذقية وطرطوس منذ بداية الصراع، وهو ما أدى إلى تضخم عدد السكان المحليين بنسبة 50%.
ويضم الساحل السوري مزيجاً سكانياً متنوعاً، فالغالبية من العرب العلويين الذين تتركز قراهم في جبال اللاذقية وطرطوس، مع وجود ملموس للسنة في مدنه الساحلية (خصوصاً في مدينة اللاذقية وجزء من طرطوس)، ووجود للمسيحيين (خاصة من الروم الأرثوذكس والكاثوليك) في بعض بلداته. وتشير التقديرات ما قبل الحرب إلى أن محافظة طرطوس ذات أغلبية علوية (نحو 80% من سكان مدينة طرطوس نفسها علويون)، أما محافظة اللاذقية فأكثر تنوعاً، إذ يشكّل العلويون حوالي نصف سكانها تقريباً، والباقي سنة ومسيحيون.

هذا التوازن السكاني شهد تغيرات ملحوظة جرّاء الحرب. فمنذ عام 2012، بدأت موجات النزوح الداخلي تصل إلى الساحل هرباً من المعارك في حلب وإدلب وحمص وغيرها، فاستقبلت مدينتا اللاذقية وطرطوس ومحيطهما مئات الآلاف من النازحين، غالبيتهم من المسلمين السنة القادمين من مناطق منكوبة.
أهمية الساحل الاقتصادية
شكل الساحل السوري عبر تاريخه رئة الاقتصاد السوري ومفتاح انفتاحه بحرياً. ففيه يقع ميناء اللاذقية، أكبر مرافئ سوريا التجارية على البحر المتوسط، يليه ميناء طرطوس كثاني أكبر الموانئ. يختص ميناء اللاذقية بنشاط تجاري كثيف يشمل تصدير المنتجات الزراعية (خاصة الحمضيات والفواكه) والمواد الخام والنفطية، ويعد مركزاً رئيسياً لحركة الحاويات والتجارة البحرية. أما ميناء طرطوس، فيشتهر بدوره في تصدير الحبوب والبضائع العامة واستيراد احتياجات البلاد، وكان قبل الحرب محطة مهمة لنقل إمدادات القمح والمواد الاستراتيجية.
إلى جانب الموانئ، يحتضن الساحل مناطق صناعية حيوية، أبرزها مصفاة بانياس النفطية، التي تبلغ طاقتها ما بين 90 ألفاً و100 ألف برميل من الخام يومياً، والتي تؤمن المشتقات النفطية للساحل والمناطق الغربية. كما توجد محطات توليد كهرباء مرتبطة بالمصفاة، ومجمعات صناعية (كمعامل الأسمدة في جبلة)، ومواقع سياحية عديدة على امتداد الشريط الساحلي، شكلت قبل عام 2011 مقصداً للمصطافين ومورداً للدخل السياحي.
لعب الساحل دوراً اقتصادياً متقدماً بفضل تربته الخصبة ومناخه المعتدل أيضاً، حيث تنتشر فيه زراعة الحمضيات، الزيتون، والخضروات. وتعد اللاذقية عاصمة الحمضيات السورية ومركز تصديرها التقليدي عبر الميناء إلى الأسواق الخارجية.
حتى عندما اندلعت الحرب وتضررت اقتصاديات المدن الداخلية، حافظ الساحل نسبياً على جزء من نشاطه الاقتصادي بفضل سيطرة النظام عليه وجلب حلفائه الخارجيين، الروس والإيرانيين، بشكل كبير.
فعندما ازداد جيش النظام ضعفاً وخسر الكثير من مواقعه، أرسلت روسيا قواتها إلى الساحل عام 2015، بعد أن كانت لا ترسل سوى مستشارين عسكريين وموظفين فنيين لدعم جيش النظام.
ومع ذلك، لم يكن الساحل بمنأى عن التأثر؛ فقد عانى من انهيار الاقتصاد الوطني عموماً نتيجة الحرب والعقوبات. فتراجعت حركة الموانئ بسبب الأخطار الأمنية وتوقف العديد من خطوط الملاحة الدولية، كما انخفض الإنتاج الزراعي بسبب رحيل المزارعين ونزوحهم أو تضرر البنى التحتية. وتراجع قطاع السياحة الساحلية إلى حد كبير نتيجة الأوضاع الأمنية.
رغم ذلك، تعزز دور موانئ الساحل خلال الحرب كمعابر أساسية لواردات سوريا في ظل تعطل المعابر البرية مع العراق، الأردن، وتركيا، فاعتمد النظام على مينائي اللاذقية وطرطوس لاستقبال الإمدادات الروسية والإيرانية الحيوية.
أهمية الساحل السياسية
لعبت مدن الساحل أدواراً ملحوظة خلال تاريخ سوريا، وتحديداً خلال الحرب، وإن اتسمت بوضع مختلف عن باقي المناطق. فعند اندلاع الثورة السورية عام 2011، شهدت مناطق في اللاذقية وبانياس احتجاجات مناهضة للنظام في ربيع ذلك العام. خرجت مظاهرات في أحياء بمدينة اللاذقية وقرى مثل الحفة وبعض قرى جبال اللاذقية، وكذلك في مدينة بانياس ذات الأغلبية السنية.
غير أن هذه الاحتجاجات قوبلت بحملة أمنية وعسكرية شديدة؛ فبحلول عام 2013، تمكنت قوات النظام من قمع التحركات الشعبية المتفرقة في الساحل بالقوة.
رغم بدايات الحراك، كانت المنطقة الساحلية في الشمال الغربي السوري معزولة إلى حد بعيد عن الدمار واسع النطاق والعنف الذي لم يهدأ في أماكن أخرى في البلاد، فسرعان ما أعاد النظام إحكام قبضته الأمنية على مدن كطرطوس واللاذقية، التي ظلت موالية إلى حد كبير، إذ كان ينتمي غالبية سكانها إلى الطائفة العلوية. ووفقاً لدراسة "لمؤسسة فريدريش إيبرت"، وطّد النزاع ترابط المجتمعات العلوية الساحلية مع النظام بطريقة غير مسبوقة. إذ عزل النزاع الساحل والعديد من المجتمعات المحلية العلوية عن باقي البلاد، مما سمح لها بتطوير آليات حكم محلي من جهة، ولكنه من جهة أخرى جعلها أكثر اعتماداً على شبكات رموز النظام للحفاظ على هذه الاستقلالية.
وتحولت مدن الساحل لاحقاً إلى ملاذ آمن لمئات الآلاف من النازحين الفارين من جحيم الحرب في الداخل. هذا الواقع عزز أهمية الساحل استراتيجياً للنظام؛ فإلى جانب كونه معقلاً اجتماعياً للطائفة العلوية التي ينحدر منها رأس النظام، أصبح أيضاً مركز ثقل لوجستي وعسكري.
نقل النظام وحدات عسكرية كبيرة إلى الساحل، وشكّل ميليشيات محلية للدفاع عنه مع ارتفاع التهديدات، خاصة بعد هجمات شنتها فصائل معارضة في ريف اللاذقية الشمالي عامي 2013 و2014. كما استمات النظام في حماية ممرات الساحل البرية نحو الداخل (كتلك الواصلة إلى حماة وحمص) لضمان عدم حصار قواعده هناك. ولعل أبرز مؤشر على مكانة الساحل في استراتيجية النظام قد ظهر عند تدخل حلفائه دولياً؛ فمع تصاعد خطر وصول فصائل معارضة إلى تخوم اللاذقية صيف عام 2015، تدخلت روسيا عسكرياً بشكل مباشر لحماية معاقل النظام الساحلية ومنع انهياره.

بعدها، وسعت موسكو حضورها بشكل غير مسبوق في سوريا والساحل تحديداً. ففي عام 2015، أقامت روسيا قاعدة حميميم الجوية جنوب شرق اللاذقية (بالقرب من مطار باسل الأسد في جبلة) لتكون مركز عملياتها العسكرية في دعم دمشق. تعد قاعدتا طرطوس وحميميم من أهم القواعد العسكرية لروسيا خارج فضاء الاتحاد السوفييتي السابق.
كان الساحل يمثل قاعدة الدعم الصلبة للنظام السابق ومركز ثقل المؤسسات العسكرية والأمنية له. وبعد الإطاحة بالرئيس المخلوع بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، فتحت السلطات السورية مراكز للتسوية مع عناصر النظام المخلوع لتسليم السلاح، واستجاب آلاف الجنود، فيما رفض ذلك بعض الخارجين عن القانون، لا سيما في منطقة الساحل، معقل كبار ضباط الأسد، حيث اختاروا الهروب والاختباء في المناطق الجبلية ونصب الكمائن للقوات الحكومية.
وأشار بعض المحللين إلى أن هؤلاء الضباط قد يشكلون تهديداً متزايداً مستقبلاً، بحسب تطور الأحداث، إذ يرون أن هذه المناطق الثلاث يتم فيها تضخيم أي عملية أمنية تنفذها وزارة الدفاع أو الأمن الداخلي على أنها تستهدف الطائفة العلوية، مما يمثل تحدياً رئيسياً أمام الإدارة الانتقالية في استعادة الأمن والتصدي لمحاولات عرقلة التغيير في سوريا.
وهذا ما يحصل في الوقت الحالي، فعلى مدار ثلاثة أيام، شهدت منطقة الساحل السوري حالة من التوتر الأمني إثر استهداف عناصر من النظام السابق دوريات أمنية، ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى.
ونقلت "سانا" عن المكتب الإعلامي لوزارة الصحة قوله: "تعرضت ستة مستشفيات في ريفي اللاذقية وطرطوس لاعتداءات وهجمات مباشرة من قبل فلول النظام البائد الليلة الماضية، ما أدى إلى ارتقاء عدة شهداء وإصابة آخرين، إضافة إلى وقوع أضرار في البنية التحتية". في السياق نفسه، أعلنت وزارة الدفاع السورية، مساء الجمعة، إفشال هجوم لفلول النظام المخلوع على قيادة القوات البحرية بمدينة اللاذقية.
0 تعليق